المادة    
الحمد الله رب العالمين, الرحمن الرحيم, مالك يوم الدين, وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد, وعلى آله وصحبه أجمعين, وعلى سائر أنبيائه المختارين المصطفين.
أما بعد:
أيها الإخوة والأخوات! فلا زلنا في هذا اللقاء نتحدث -كما في اللقاءات التي قبله- عن خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام، على منهجنا المعتاد في المقارنة بين منهج الوحي المحفوظ وبين المناهج المحرفة, أو مناهج أهل الإلحاد في هذا الشأن.
والحادثة التي وعدنا أن نتحدث عنها اليوم حادثة عجيبة غريبة! إنها آية من آيات الله تبارك وتعالى في خلقه، ومع الأسف أن نجد كثيراً ممن يكتبون عن التاريخ القديم, وعن هذا الرجل العظيم لا يأتون على هذه الحادثة، ولا يكادون يلقون لها بالاً مع ما فيها من العظمة, ومع ما فيها من الدلالة الباهرة والبينة القاطعة، ومع ثبوتها لدى كثير من الأمم فضلاً عن إثباتها في أصدق المصادر وأوفاها؛ وهو كتاب الله تبارك وتعالى القرآن العظيم.
إنها حادثة إلقاء الخليل إبراهيم عليه السلام في النار, وإنجاء الله تبارك وتعالى له منها على أعين الملأ من الملك ووزرائه وأعوانه وكبرائه وقومه أجمعين.
  1. حادثة إلقاء إبراهيم عليه السلام في النار تبين حقيقة التوحيد

    هذه الحادثة الفريدة العجيبة في التاريخ القديم تأتي لتكشف -لنا ولكل متطلع في تلك الأحقاب والحضارات والشعوب وما حدث فيها- عن الميزة العظيمة لدين الخليل إبراهيم عليه السلام, ولدين الأنبياء جميعاً؛ ألا وهو التوحيد. التوحيد الذي يبرز ويسطع ويبهر نوره وشعاعه في ظلمات الوثنية والشرك والجاهلية, والضلالات التي تموج بها الحضارات والأمم في تواريخ تلك الشعوب أجمعين؛ فمن بين ذلك الركام الهائل والظلمات المطبقة ما بين عبادة الملوك وعبادة الأشجار وعبادة الأحجار وعبادة الكواكب.. عُبدت الوحوش, وعُبدت الفروج, وعبدت الطيور, وعبدت العناصر الأربعة: الرياح, والماء, والنار, والهواء, وعبدت من دون الله تبارك وتعالى أصنام وأوثان وآلهة كثيرة جداً يضج ويموج بها التاريخ، بحيث إنك إذا نظرت لأي كتاب من كتب التاريخ القديمة من كتب الحضارات, سواء من كتب الأنتربولوجيا والدراسات الإنسانية، أو من أي مصدر من المصادر؛ فإنك تجد هذا ظاهراً جلياً، وتعجب غاية العجب, وتنظر إلى أي مدى يمكن أن تنتكس الفطرة البشرية والعقل البشري, والإنسان الذي كرمه الله تبارك وتعالى بهذا العقل وهذه الفطرة، أن تنتكس إلى هذه الظلمات وإلى هذه السوءات؛ التي لا تليق على الإطلاق بمقام الإنسان, وما أعطاه الله تبارك وتعالى من مواهب. لا تجد أعجب من هذه السيطرة الضخمة الكبيرة المتتابعة والمتوالية في كل الحضارات قبل ظهور نبينا محمد صلى الله عليه وسلم, ونور الإسلام العظيم على الأرض، لا تجد أعجب من هذا التراث الضخم للوثنية إلا أمراً واحداً في نظري أنه أعجب؛ وهو: أن يكتب كُتَّاب من أهل الكتاب عن هذا التاريخ؛ فلا يكادون يشيرون إلا بإشارات طفيفة إلى أن هذا شرك, وأن هذه وثنية؛ بل أفحش من ذلك وأعجب أن يكتب كتاب مسلمون, وأن يُدرس في الجامعات الإسلامية -في شرق الأرض وغربها- مثل هذه الحضارات, ومثل هذا التاريخ الوثني الذي لا نهاية له؛ لأنه لا يزال مستمراً في البحث, ولا أبعاد له فهو يتشعب في كل واد, ومع ذلك لا نكاد نجد إلا القليل ممن خلص فكرهم الإسلامي النقي من يقول أو يشير ويعقّب بأن هذا مناف لشهادة أن لا إله إلا الله, ولتوحيد الله، وأن هذا انتكاس وارتكاس وضلال. بل مع الأسف نجد من يمجد هذه الوثنيات, ومن يمجد هذه الحضارات, ومن يمجد أو يبتهج لاكتشاف وثن أو لاكتشاف صنم أو معرفة إله من الآلهة، ومن يتفلسف في العلاقة بين الآلهة وبين الأصنام وبين الأوثان, وأنها كانت علاقة سامية ورفيعة, وتكشف عن جوانب إنسانية عالية إلى غير ذلك.. فتعجب غاية العجب من مثل هذا التفكير, ومع الأسف الشديد أن يقع فيه بنو الإسلام؛ بل حتى من أهل الكتاب.
  2. حادثة إلقاء إبراهيم عليه السلام في النار آية عظيمة

    المقصود -أيها الإخوة الكرام- أن هذه الآية العظيمة البينة الباهرة التي ذكرها الله تبارك وتعالى في كتابه, وجعلها آية متوارثة في الأجيال من بعد إبراهيم الخليل؛ أن هذه الدلالة, وهذه العظمة التي جعلها الله تبارك وتعالى لها تكفي لأن تقرع قلوب من لا يؤمنون بالله تبارك وتعالى, أو من أشركوا معه غيره، تكفي لأن يؤمن وأن يتفهم هذه القصة العجيبة كل قلب يتأمل حال هذا الفتى.
    فتى وحيد في أمة تتعاون كلها ضده! الملك والحاشية؛ بل إن أباه وأهل بيته يتعاون الجميع عليه، يتفرد ويتميز عن هؤلاء جميعاً هذا الشاب وهذا الفتى بأن يشهد أن لا إله الله, وأن يكون بهذا الإيمان العظيم العميق الجليل الذي تتفق قصته -التي جاءت في المصادر الإسلامية وفي غير الإسلامية- على أنه حتى في أحلك اللحظات عندما جاءه الملك أو الملائكة وأرادوا أن يعينوه, ويقول: لا أريد العون إلا من الله.
    وهي عندما تتفق عليها المصادر من هاهنا ومن هاهنا ففي هذه قمة التوحيد التي جعلت الخليل إبراهيم عليه السلام يستحق حقاً أن يكون خليل الرحمن، وأن يُتمَّ الكلمات التي أمره الله تبارك وتعالى بإتمامهن وبالوفاء بهن؛ فيستحق بذلك أن يكون إماماً للناس، كما ذكر الله تبارك وتعالى: (( فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ))[البقرة:124]؛ فاستحق الإمامة بمثل هذه المقامات العالية في الإيمان وفي الثبات، ولم ينظر إلى كونه غريباً وحيداً على هذه العقيدة, والأرض من حوله والأقرباء والمجتمع كله على غير ذلك، وفي هذا عبرة وعظة طويلة تستحق منا الوقفات الطويلة؛ لكن يكفينا الآن هذه الإلمامة العاجلة بين يدي الحديث عن المنهج المقارن في رواية هذه القصة, وهذه الحادثة العجيبة, والآية البينة الباهرة.