هذه الحادثة الفريدة العجيبة في التاريخ القديم تأتي لتكشف -لنا ولكل متطلع في تلك الأحقاب والحضارات والشعوب وما حدث فيها- عن الميزة العظيمة لدين الخليل إبراهيم عليه السلام, ولدين الأنبياء جميعاً؛ ألا وهو التوحيد.
التوحيد الذي يبرز ويسطع ويبهر نوره وشعاعه في ظلمات الوثنية والشرك والجاهلية, والضلالات التي تموج بها الحضارات والأمم في تواريخ تلك الشعوب أجمعين؛ فمن بين ذلك الركام الهائل والظلمات المطبقة ما بين عبادة الملوك وعبادة الأشجار وعبادة الأحجار وعبادة الكواكب.. عُبدت الوحوش, وعُبدت الفروج, وعبدت الطيور, وعبدت العناصر الأربعة: الرياح, والماء, والنار, والهواء, وعبدت من دون الله تبارك وتعالى أصنام وأوثان وآلهة كثيرة جداً يضج ويموج بها التاريخ، بحيث إنك إذا نظرت لأي كتاب من كتب التاريخ القديمة من كتب الحضارات, سواء من كتب الأنتربولوجيا والدراسات الإنسانية، أو من أي مصدر من المصادر؛ فإنك تجد هذا ظاهراً جلياً، وتعجب غاية العجب, وتنظر إلى أي مدى يمكن أن تنتكس الفطرة البشرية والعقل البشري, والإنسان الذي كرمه الله تبارك وتعالى بهذا العقل وهذه الفطرة، أن تنتكس إلى هذه الظلمات وإلى هذه السوءات؛ التي لا تليق على الإطلاق بمقام الإنسان, وما أعطاه الله تبارك وتعالى من مواهب.
لا تجد أعجب من هذه السيطرة الضخمة الكبيرة المتتابعة والمتوالية في كل الحضارات قبل ظهور نبينا محمد صلى الله عليه وسلم, ونور الإسلام العظيم على الأرض، لا تجد أعجب من هذا التراث الضخم للوثنية إلا أمراً واحداً في نظري أنه أعجب؛ وهو: أن يكتب كُتَّاب من أهل الكتاب عن هذا التاريخ؛ فلا يكادون يشيرون إلا بإشارات طفيفة إلى أن هذا شرك, وأن هذه وثنية؛ بل أفحش من ذلك وأعجب أن يكتب كتاب مسلمون, وأن يُدرس في الجامعات الإسلامية -في شرق الأرض وغربها- مثل هذه الحضارات, ومثل هذا التاريخ الوثني الذي لا نهاية له؛ لأنه لا يزال مستمراً في البحث, ولا أبعاد له فهو يتشعب في كل واد, ومع ذلك لا نكاد نجد إلا القليل ممن خلص فكرهم الإسلامي النقي من يقول أو يشير ويعقّب بأن هذا مناف لشهادة أن لا إله إلا الله, ولتوحيد الله، وأن هذا انتكاس وارتكاس وضلال.
بل مع الأسف نجد من يمجد هذه الوثنيات, ومن يمجد هذه الحضارات, ومن يمجد أو يبتهج لاكتشاف وثن أو لاكتشاف صنم أو معرفة إله من الآلهة، ومن يتفلسف في العلاقة بين الآلهة وبين الأصنام وبين الأوثان, وأنها كانت علاقة سامية ورفيعة, وتكشف عن جوانب إنسانية عالية إلى غير ذلك.. فتعجب غاية العجب من مثل هذا التفكير, ومع الأسف الشديد أن يقع فيه بنو الإسلام؛ بل حتى من أهل الكتاب.